المحكمة الجنائية الدولية تكيل أزمتي غزة ودارفور بمكيالين

كشف العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة عن ازدواجية واضحة في معايير
العدالة التي تتبعها المنظمات الدولية، وعلى رأسها المحكمة الجنائية
الدولية، بإعتبارها الجهة المسئولة عن محاكمة المتهمين بجرائم الإبادة
الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب والاستيطان.وظهرت
تلك الازدواجية في التصريح الأخير الذي أدلت به متحدثة باسم المحكمة
الجنائية الأسبوع الماضي، والتي أعلنت من خلاله أن المحكمة الجنائية
الدولية لا تملك الاختصاص للنظر في دعاوى اتهمت إسرائيل بارتكاب جرائم حرب في حربها على قطاع غزة
مستندة في ذلك إلى أن إسرائيل ليست عضوا في الميثاق المؤسس للمحكمة التي
تنظر فقط في الجرائم التي ترتكب في دولة وقعت عليه، أو في دعاوى يرفعها
مواطن من هذه الدولة.وتتجلى أبرز مظاهر ازدواجية العدالة الدولية
في أسلوب تعاطي المحكمة مع أزمتي غزة ودارفور، ففي الوقت الذي تركز فيه
المحكمة اهتمامها على استصدار قرار باعتقال الرئيس السوداني
عمر البشير بتهمة ارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور، تغض الطرف عن كافة
الجرائم والمجازر التي ترتكبها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني على مدار
أكثر من ثلاثة أسابيع، والتي قتلت ما يقرب من 1330 فلسطينيا وجرحت أكثر من
5300 آخرين، مع العلم بأن السودان وإسرائيل لم يوقعا على ميثاق روما
المؤسس للمحكمة.واتهمت عدة جهات دولية إسرائيل بارتكابها جرائم حرب
في غزة، فمن جانب أكد المقرر الأممي، المكلف بمراقبة حقوق الإنسان في
الأراضي الفلسطينية، ريتشارد فالك أن هناك أدلة دامغة على خرق إسرائيل
لقواعد القانون الإنساني وقوانين الحرب، وذلك بشنها حربا على "سكان عزل
أساسا"، مشيرا إلى أن المدنيين في غزة حرموا خيار أن يصبحوا لاجئين لأنهم
ظلوا محاصرين في منطقة حرب ليس مسموحا لهم بمغادرتها رغم الكثافة السكانية
الكبيرة.من جانب آخر أكد أعضاء وفد مدني فرنسي، زار غزة مؤخرا أن
قوات الاحتلال ارتكبت "جرائم حرب حقيقية" في القطاع، حيث إن ما وقف عليه
الوفد "لم يكن يشبه آثار مواجهة بين متحاربين" وإنما كان عبارة عن مذبحة
قضت على مئات المدنيين العزل بالتزامن مع تدمير أحياء سكنية برمتها وتشريد
سكانها.

ومما سبق، يبدو واضحا أن المطالبات الدولية بمحاكمة قادة إسرائيل لا
تأتي من فراغ ولكنها تستند إلى أدلة قانونية دامغة، وهو الأمر الذي أثار
فزعا في الأوساط الإسرائيلية خشية من إمكانية ملاحقة قادتها بتهمة ارتكاب
جرائم حرب، مما دفع بالحكومة الإسرائيلية إلى إصدار قرار بمنع الكشف عن
القادة أو الضباط الإسرائيليين الذين شاركوا بالعدوان الأخير على غزة،
خوفا من تعرضهم لعمليات انتقام أو مواجهة ملاحقات قضائية.كما
سعت الحكومة الإسرائيلية مؤخرا لإقناع عدد من الدول الأوروبية بتعديل
قوانينها التي تجيز اعتقال إسرائيليين بالتهم السابقة أثناء وجودهم في تلك
الدول، حيث أن القوانين الوطنية في العديد من الدول الأوروبية تسمح
بمحاكمه مرتكبي جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان بغض النظر عن المكان
الذي ارتكبت فيه.ورغم كل هذه الشواهد والدلائل القانونية، نجد أن
الجهات الدولية المعنية، وعلى رأسها المحكمة الجنائية الدولية، تقف ساكنة
أمام هذه الجرائم الإسرائيلية وتتذكر فقط البشير ودارفور، فالسيد لويس
أوكامبو، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، والذي تقدم بمذكرة في
يوليو الماضي يطالب فيها باعتقال الرئيس البشير، لم يعر اهتماما لكافة
المجازر والفظائع التي ترتكب في حق الفلسطينيين الأبرياء، في حين أنه رأى
أن الوضع في إقليم دارفور يستوجب اعتقال رأس السلطة في السودان.ويرى
المراقبون أن هذا المشهد يبرز قمة الازدواجية في المعايير الدولية،
فأوكامبو استند في مذكرته بطلب الاعتقال إلى أن هناك "مبررات معقولة
للاعتقاد" بأن الرئيس البشير يتحمل "المسئولية الجنائية" في تهم ارتكاب
جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، مشيرا إلى
أن الأدلة التي جمعها توضح أن ميلشيات الجنجويد قد هاجمت القرى لأكثر من
خمس سنوات بأمر من رئيس الدولة.إلا أن القراءة المتأنية لتقرير
المدعي العام تظهر بوضوح أنه لم يقم بزيارة للسودان أو دارفور، ولم يزر أي
من معاونيه الذين ذكرهم النظام الأساسي للمحكمة السودان أو دارفور، كما
اتضح أنه اعتمد في جانب كبير من تقريره على روايات شفهية عن انتهاكات حقوق
الإنسان في دارفور من معارضين سودانيين مقيمين في أوروبا والولايات
المتحدة، في الوقت نفسه اتضح أن بعض البنود التي اعتمد عليها المدعي العام
تتحدث عن "نوايا" البشير، وأشياء كان "يعتزم" القيام بها، ومن المفترض أنه
لا محاكمة على النوايا في القانون الدولي.

ومن هنا يتضح أن الأدلة التي استند إليها أوكامبو في قضية البشير
وتجاوزاته المزعومة في إقليم دارفور، غير واضحة ومشوشة ويمكن التشكيك
فيها، أما جرائم إسرائيل في غزة فهي علنية، وموثقة ومصادرها متنوعة.ورغم
أن أوكامبو يعد أحد الجهات الثلاث المسئولة عن تحريك دعوى أمام المحكمة
الجنائية لملاحقة قادة إسرائيل، إلا أن غالبية المراقبين قد استبعدوا
إقدامه على مثل هذه الخطوة، لأن هذا الرجل، الذي رفض سابقا قبول الدعاوي
المرفوعة ضد الانتهاكات الأمريكية والبريطانية في العراق، يتحرك تبعا
لدوافع وأجندة سياسية بالدرجة الأولى وبعيدة كل البعد عن مبادىء القانون
والعدالة الدولية، فهو يتبنى ما يمكن تسميته بـ "العدالة المشروطة" التي
لا ترى إلا بعين المصالح و تزن الأمور بمكاييل عديدة.وأكبر دليل
على ذلك أنه في الوقت الذي يتغاضى فيه أوكامبو عن كافة أشكال المجازر التي
تقترفها إسرائيل في حق النساء والشيوخ والأطفال في غزة، نجد أنه لم يكتف
بدوره كمدعي عام في تقديم مذكرة اعتقال البشير إلى المحكمة الجنائية ولكنه
ظل يردد تصريحات تنتقد الرئيس السوداني وتتهمه بالمسئولية عن تردي الأوضاع
في الإقليم، كما أنه طالب أعضاء مجلس الأمن أكثر من مرة بضرورة اتخاذ موقف
موحد في حالة إصدار المحكمة قرار باعتقال البشير وعدم اللجوء إلى المادة
16 من قانون المحكمة الجنائية التي تجيز لمجلس الأمن الدولي تجميد
الملاحقة لمدة عام.وكشف المشهد السابق بوضوح أن العدالة الدولية
باتت تفتقر لأهم وأبرز مقوماتها وهي النزاهة والشفافية، فالمشهد السابق قد
كشف بوضوح أن المحكمة الجنائية الدولية لم تعد أكثر من مجرد أداة من أدوات
صراع موازين القوى، وهذا الأمر هو الذي جعل إسرائيل بمنأى عن أي ملاحقة
قانونية دولية على المجازر التي ارتكبتها في حق الشعب الفلسطيني، فهذه
الدولة لم تحاسب مرة واحدة على الجرائم التي ارتكبتها، وهو ما يؤكد
ازدواجية المعايير التي أصبحت تحكم توجهات المنظمات الدولية في كثير من
القضايا، خاصة إذا كان العرب والمسلمون طرفا أساسيا فيها.

شكرا للموضوع الجميل يا ميدو

شكرا للمرور

شكرا للموضوع

شكرا للمرور

» إريتريا ..تتحدي المحكمة الجنائية الدولية
» البشير يتوجه إلى اثيوبيا متحديا قرار المحكمة الجنائية الدولية
» القذافي في أديس أبابا‏:‏ المحكمة الجنائية شكل جديد من الإرهاب الدولي
» أبوالغيط وسليمان يبحثان مع البشير تطورات الأزمة مع المحكمة الجنائية في الخرطوم اليوم
» إعلان الدوحة يتضامن مع البشير ويرفض قرار "الجنائية الدولية"