هو أبو الوليد أحمد بن زيدون المخزومي الأندلسي، ولد في قرطبة سنة 394هـ ونشأ في بيئة علم وأدب، توفي أبوه، وهو في الحادية عشرة من عمره، فكفله جده وساعده على تحصيل علوم عصره فدرس الفقه والتفسير والحديث والمنطق، كما تعمق باللغة والأدب وتاريخ العرب، فنبغ في الشعر والنثر.
وشهد ابن زيدون تداعي الخلافة الأموية في الأندلس، فساعد أحد أشراف قرطبة وهو ابن الحزم جهور للوصول إلى الحكم، أصبح ابن زيدون وزير الحاكم الجديد ولقب بذي الوزارتين. ثم أقام ابن زيدون علاقة وثيقة بشاعرة العصر وسيدة الظرف والأناقة ولادة بنت المستكفي أحد ملوك بني أمية، وكانت قد جعلت منزلها منتدى لرجال السياسة والأدب، وإلى مجلسها كان يتردد ابن زيدون، فقوي بينهما الحب، وملأت أخبارهما وأشعارهما كتب الأدب، وتعددت مراسلاتهما الشعرية.
ولم يكن بد في هذا الحب السعيد من الغيرة والحسد والمزاحمة، فبرز بين الحساد الوزير ابن عبدوس الملقب بالفار، وكان يقصر عن ابن زيدون أدباً وظرفاً وأناقة، ويفوقه دهاء ومقدرة على الدس فكانت لإبن عبدوس محاولات للإيقاع بين الحبيبين لم يكتب لها النجاح.
ونجحت السعاية للإيقاع بين ابن زيدون وأميره فنكب الشاعر وطرح في السجن. ولم تنفع قصائد الاستعطاف التي وجهها من السجن إلى سيده فعمد ابن زيدون إلى الحيلة وفر من السجن واختفى في بعض ضواحي قرطبة. وعبثاً حاول استرضاء ولادة التي مالت أثناء غيابه إلى غريمه ابن عبدوس.
ولما تسلم أبو الوليد أمر قرطبة بعد وفاة والده أبي الحزم أعاد ابن زيدون إلى مركزه السابق لكن شاعرنا أحس فيما بعد بتغير الأمير الجديد عليه بتأثير من الحساد، فترك البلاط وغادر المدينة.
ووصل ابن زيدون مدينة إشبيلية حيث بنو عباد، فلقي استقبالاً حاراً وجعله المعتضد بن عباد وزيره، وهكذا كان شأنه مع ابنه المعتمد. وكان حب ولادة لا يزال يلاحقه، على الرغم من تقدمهما في السجن، فكتب إليها محاولاً استرضاءها فلم يلق صدى لمحاولاته وقد يعود صمتها إلى نقمتها على ابن زيدون بسبب ميله إلى جارية لها سوداء أو أن ابن عبدوس حال دون عودتها إلى غريمه، والمعروف أن ولادة عمرت أيام المعتمد ولم تتزوج قط.
وبترغيب من ابن زيدون احتل المعتمد بن عباد مدينة قرطبة وضمها إلى ملكه وجعلها مقره فعاد الشاعر إلى مدينته وزيراً قوياً فهابه الخصوم وسر به المحبون، إلا أنه لم يهنأ بسعادته الجديدة. إذ ثارت فتنة في إشبيلية فأرسل ابن زيدون إليها لتهدئة الحال. بتزيين من الخصوم قصد أبعاده، فوصل ابن زيدون مدينة إِشبيلية. وكان قد أسن، فمرض فيها ومات سنة 463 هـ / 1069 م.
لابن زيدون ديوان شعر حافل بالقصائد المتنوعة، طبع غير مرة في القاهرة وبيروت وأهم ما يضمه قصائدة الغزلية المستوحاة من حبه لولادة، وهو غزل يمتاز بصدق العاطفة وعفوية التعبير وجمال التصوير، ومن بين تلك القصائد (النونية) المشهورة التي نسج اللاحقون على منوالها ومطلعها:
أضحى التنائي بديلاً من تنادينا ...... وناب عن طيب لقيانا تجافيناومن الأبيات الواردة في القصيدة:
يكاد حين تناجيكم ضمائرنا ...... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت ...... سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا
إن الزمان الذي ما زال يضحكنا ...... أنساً بقربكم قد عاد يبكينا
سران في خاطر الظلماء يكتمنا ...... حتى يكاد لسان الصبح يفشيناوبعد فراره من السجن قصد مدينة الزهراء في إحدى ضواحي قرطبة وتأمل طبيعة افتقد جمالها في السجن، فتذكر ولادة ونظم قصيدة مطلعها:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقاً ...... والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا وفي ديوان ابن زيدون مدائح كثيرة في بني جمهور وبني عباد وفيه مطارحات بينه وبين ولادة ومساجلات بينه وبين المعتمد بن عباد. وأوصاف لمشاهد الطبيعة ورثاء واستعطاف وشكاوى كلها تحعل ابن زيدون من كبار شعراء الأندلس.
أما نثره فلا يقل عن شعره قيمة فلم يصلنا منه سوى رسالتين تبينان قوة ملكته اللغوية وعمق ثقافته ولكن قلة انتاجه النثري جعل ابن زيدون في مصاف الشعراء وقلما يذكر بين الكتاب والمعروفين.
أما الرسالتان النثريتان فالأولى منهما تهكمية وضعها على لسان ولادة ووجهها إلى ابن عبدوس غريمه في الحب وخصمه في السياسة وقد استرسل فيها وأطال وضمنها أخبار العرب وأشعارهم، وما استطاع لسانه السليط أن يوفر من نابي اللفظ الرسالة وقد اشتهرت رسالة ابن زيدون التهكمية وعدت مثالاً للبلاغة ونموذجاً للنقد المتهكم.. وفي مستهلها يقول ابن زيدون:
(أما بعد أيها المصاب بعقله، المورط بجهله البين سقطه، الفاحش غلطه العاثر في ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره ... الساقط سقوط الذباب على الشراب، المتهافت تهافت الفراش في الشهاب، فإن العجب أكذب ومعرفة المرء نفسه أصوب ... ).
أما الثانية فهي الرسالة الجدية التي كتبها في سجنه إلى الأمير أبي الحزم بن جمهور يتنصل فيها من التهم الموجهة إليه ويستعطف أميره ويذكره بإخلاصه له، ويختمها بقصيدة تعد من أجمل ما نظم في الإستعطاف.
وصفوة القول أن ابن زيدون هو علم من أعلام الأدب العربي. شعره ونثره وقد يصح فيه قول ابن بسام في كتابه (الذخيرة): (كان أبو الوليد خاتمة شعراء بني مخزوم وأحد من خبر الأيام خبراً ووسع البيان نظماً ونثراً ... )