الصَّلاةُ قرَّةُ عيونِ المحبين ، ولذَّةُ أرواح الموَحِّدين ،وبستان العابدين ، وثمرة الخاشعين ، وَمِحَكُّ أحوالِ الصادقين ، وميزانُ أحوالِ السّالكين . وهي من أعظمِ نعم الله عليهم ، وأفضل هداياه التي ساقها إليهم ، فهيَ بستَانُ قلوبهم ، ولذَّةُ نفوسهم ، ورياضُ جوارحهم . فيها يتقلبون في النعيم ، وتوجب لهم القرب والمنزلة من الله .
وسرُّ الصلاة وروحها ولبُّها هو إقبالُ العبد فيها على الله وحضوره بكُلِّيَّتِهِ بين يديه 18، فكما أنّه لا ينبغي له أنْ يصرفَ وجهه عن قِبْلَةِ الله يميناً وشمالاً ، فكذلك لا ينبغي له أن يصرفَ قلبه عن ربّه إلى غيره .
فالكعبةُ التي هي بيتُ الله قِبْلَةُ وجهه وبدنه ، وربُّ البيت تبارك وتعالى هو قِبْلَةُ قلبه وروحه ، وعلى حسب إقبالِ العبد على الله في صلاته يكون إقبال الله عليه ، وإذا أعْرَضَ أعْرَضَ الله عنه ؛ وكما تَدينُ تُدانُ .
وللإقبال في الصلاة ثلاثُ منازل :
إقبال على قلبه فيحفظه من الشهوات والوساوس والخطرات المبطِلَةِ لثواب صلاته ، أو المنقصة له .
وإقبال على الله بمراقبته حتى كأنّه يراه .
وإقبال على معاني كلامه وتفاصيل عبودية الصلاة ليعطيها حقّها من الخشوع والطمأنينة وغير ذلك .
فباستكمال هذه المراتب الثلاث تكون إقامة الصلاة حقاً ، ويكون إقبال الله على عبده بحسب ذلك .
ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه مثل رجل قد استدعاه السلطان ، فأوقفه بين يديه ، وأقبل يناديه ويخاطبه ، وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يميناً وشمالاً ، وقد انصرف قلبه عن السلطان ، فلا يفهم ما يخاطبه به ؛ لأن قلبه ليس حاضراً معه ، فما ظنّ هذا الرجل أن يفعل به السلطان ، أفليس أقلُّ المراتب في حقّه أن ينصرف من بين يديه ممقوتاً مبعداً قد سقط من عينيه ؟ ! فما الظنّ بالملك الحق المبين الذي هو ربّ العالمين وقيوم السموات والأرض .
فهذا المصلي لا يستوي والحاضرَ القلب ، المقبلَ على الله تعالى في صلاته ، الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه ، فامتلأ قلبه من هيبته ، وذلت عنقه له ، واستحيى من ربه تعالى أن يقبل على غيره ، أويلتفت عنه ، وبين صلاتيهما في الفضل ؛ كما بين السماء والأرض .
وذلك : أن أحدهما مقبل بقلبه على الله ، قرير العين به ، والآخر ساهٍ غافل ، فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله ، وبينه وبينه حجاب ؛ لم يكن إقبالاً ولا تقريباً ، فما الظن بالخالق ؟!
وإذا أقبل على الخالق ، وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس ، والنفس مشغوفة بها ، ملأى منها ، فكيف يكون ذلك إقبالاً وقد ألهته الوساوس والأفكار ، وذهبت به كل مذهب ؟!
والعبدُ إذا قام في الصلاة ؛ غارَ الشيطان منه ، فإنه قام في أعز مقام ، وأقربه ، وأغيظه للشيطان ، وأشده عليه ، فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهاد أن يخطر بينه وبين نفسه ، ويحول بينه وبين قلبه ، فيذكِّره في الصلاة ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها ، حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجة ، وأيس منها ، فيذكره إياها في الصلاة 19؛ ليشغل قلبه بها ، ويأخذه عن الله ، فيقوم فيها بلا قلب ، فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجل ، الحاضر بقلبه في صلاته ، فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه ، وأثقاله لم تخفَّ عنه بالصلاة ، فإن الصلاة إنما تكفِّر سيئات من أدى حقها ، وأكمل خشوعها ، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه .
فهذا إذا انصرف منها ؛ وجد خفة من نفسه ، وأحس بأثقال قد وضعت عنه ، فوجد نشاطاً وراحة وروحاً ، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها ؛ لأنها قرَّةُ عينه ، ونعيم روحه ، وجنة قلبه ، ومستراحه في الدنيا ، فلا يزال كأنه في سجن ضيق حتى يدخل فيها ، فيستريح بها ، لا منها ، فالمحبُّون يقولون : نصلي فنستريح بصلاتنا ؛ كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم يابلالُ أقم الصلاة، أرحنا بها) 20 أي: أقمها لنستريح بها من مقاساة الشواغل ، كما يستريح التعبان إذا وصل إلى منزله وقرّ فيه وسكن ، ولم يقل : أرحنا منها ؛ كما يقول المبطلون الغافلون .
وقال النبي: (حُبِّبَ إليّ : النِّسَاءُ ، والطِّيبُ ، وجعلتْ قرَّةُ عيني في الصَّلاة) 21 . فقرَّةُ العينِ فوق المحبَّة ، فجعلَ النساءَ والطّيبَ مّما يحبّه ، وأخبر أنَّ قرّة العينِ التي يطمئن القلب بالوصول إليها ومحض لذته وفرحه وسروره وبهجته : إنّما هو في الصّلاة التي هي صلةٌ بالله ، وحضورٌ بين يديه ، ومناجاةٌ له ، واقترابٌ منه . فكيف لا تكون قرة العين ، وكيف تقر عين المحب بسواها ؟! وكيف يطيق الصبر عنها ؟! فَالمُحِبُّ رَاحَتُهُ وَقُرَّةُ عَينِهِ فِي الصَّلاةِ ، وَالغَافِلُ المُعرِضُ لَيسَ لَهُ نَصِيبٌ مِن ذَلِكَ ، بَل الصَّلاةُ كَبِيِرَةٌ شَاقَّةٌ عَلَيهِ ، إذَا قَامَ فِيهَا كَأَنَّهُ عَلَى الجَمرِ حِتَّى يَتَخَلَّصَ مِنهَا ، وَأَحَبُّ الصَّلاةِ إلَيهِ أَعجَلُهَا وَأَسرَعُهَا ، فَإنَّهُ لَيسَ لَهُ قُرَّةُ عَينٍ فِيهَا ، وَلا لِقَلبِهِ رَاحَةٌ بِهَا ، وَالعَبدُ إذَا قَرَّتْ عَينُهُ بِشَيءٍ وَاستَرَاحَ قَلبُهُ بِهِ فَأَشَقُّ مَاعَلَيهِ مُفاَرَقَتُهُ ، وَالمُتَكَلِّفُ الفَارغُ القَلبِ مِن اللهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ المُبتَلَى بِمَحَبَّةِ الدُّنيَا أَشَقُّ مَا عَلَيهِ الصَّلاةُ ، وَأَكرَهُ مَا إلَيهِ طُولُهَا ، مَعَ تَفَرُّغِهِ وَصِحَّتِهِ وَعَدَمِ اشتِغَالِهِ ! وإنما يقوى العبد على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها بربه إذا قهر شهوته وهواه ، وإلا فقلب قد قهرته الشهوة ، وأسره الهوى ، ووجد الشيطان فيه مقعداً تمكن فيه ؛ كيف يَخْلُصُ من الوساوس والأفكار ؟! والقلوب ثلاثة : القلب الأول : قلب خالٍ من الإيمان وجميع الخير ، فذلك قلب مظلم ، قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه ؛ لأنه قد اتخذه بيتاً ووطناً ، وتحكَّم فيه بما يريد ، وتمكَّن منه غاية التمكن . القلب الثاني : قلب قد استنار بنور الإيمان ، وأوقد فيه مصباحه ، لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الأهوية ، فللشيطان هنالك إقبال وإدبار ، ومجالات ومطامع ، فالحرب دول وسجال . وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة ، فمنهم مَن أوقات غلبته لعدوه أكثر ، ومنهم من أوقات غلبة عدوه له أكثر، ومنهم من هو تارة وتارة . القلب الثالث : قلب محشو بالإيمان ، قد استنار بنور الإيمان ، وانقشعت عنه حجب الشهوات ، وأقلعت عنه تلك الظلمات ، فلنوره في صدره إشراق ، ولذلك الإشراق إيقاد ، لو دنا منه الوسواس ؛ احترق به ، فهو كالسماء التي حُرِست بالنجوم فلو دنا منها الشيطان يتخطاها ؛ رُجِم فاحترق ، وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن ؛ وحراسة الله تعالى له أتمّ من حراسة السماء ، والسماء متعبِّد الملائكة ، ومستقرُّ الوحي ، وفيها أنوار الطاعات ، وقلب المؤمن مستقر التوحيد ، والمحبة ، والمعرفة ، والإيمان ، وفيه أنوارها ، فهو حقيق أن يُحْرَس ويحفظ من كيد العدو ، فلا ينال منه شيئاً إلا خطفة . وقد مثَّل ذلك بمثال حسن ، وهو ثلاثة بيوت : بيت للملك : فيه كنوزه ، وذخائره ، وجواهره . وبيت للعبد : فيه كنوز العبد ، وذخائره، وجواهره ،وليس جواهر الملك وذخائره . وبيت خال صفر : لا شيء فيه . فجاء اللص يسرق من أحد البيوت ، فمن أيِّها يسرق ؟ فإن قلت : من البيت الخالي ؛ كان محالاً ؛ لأن البيت الخالي ليس فيه شيء يُسْرق ، ولهذا قيل لابن عباس رضي الله عنهما : إن اليهود تزعم أنها لا تُوَسْوس22 في صلاتها . فقال : وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب ؟! وإن قلت : يسرق من بيت الملك ؛ كان ذلكَ كالمستحيلِ الممتنع ، فإنَّ عليه من الحرسِ واليَزك 23ما لايستطيعُ اللصُّ الدنوَّ منهُ ، كيف وحارسه الملك بنفسه ؟! وكيف يستطيع اللص الدنوَّ منه وحوله من الحرس والجند ما حوله ؟! فلم يبق للصِّ إلا البيت الثالث ، فهو الذي يشنُّ عليهِ الغاراتِ . فليتأمَّل اللبيبُ هذا المثال حقَّ التأمُّلِ ، ولينزله على القلوبِ ؛ فإنَّها على منواله . فقلب خلا من الخير كلّه ، وهو قلب الكافر والمنافق ، فذلك بيت الشيطان ؛ قد أحرزه لنفسه ، واستوطنه ، واتخذه سكناً ومستقراً ، فأيُّ شيء يسرق منه وفيه خزائنه ، وذخائره ، وشكوكه ، وخيالاته ووساوسه ؟! وقلب قد امتلأ من جلال الله عز وجل، وعظمته ، ومحبته ، ومراقبته ، والحياء منه ، فأيُّ شيطان يجترىء على هذا القلب ؟! وإن أراد سرقة شيء منه ؛ فماذا يسرق ؟!وغايته أن يظفر في الأحايين منه بخطفة ونهب ، يحصل له على غِرَّة من العبد وغفلة لا بدّ له منها ، إذ هو بشر ، وأحكام البشرية جارية عليه ؛ من الغفلة ، والسهو ، والذهول ، وغلبة الطبع . وقلب فيه توحيد الله تعالى ، ومعرفته ، ومحبته ، والإيمان به ، والتصديق بوعده ، وفيه شهوات النفس وأخلاقها ، ودواعي الهوى والطبع . فمرة يميل بقلبه داعي الإيمان ، والمعرفة ، والمحبة لله تعالى ، وإرادته وحده ، ومرة يميل بقلبه داعي الشيطان ، والهوى ، والطباع . فهذا القلب للشيطان فيه مطمع ، وله منه منازلات ووقائع ، ويعطي الله النصر من يشاء . ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [ آل عمران : 126 ] .
وهذا لا يتمكنُ الشيطانُ منهُ إلا بما عندهُ من سلاحه ، فيدخل إليه الشيطان ، فيجد سلاحه عنده ، فيأخذه ويقاتله به ، فإنّ أسلحته هي الشهوات ، والشبهات ، والخيالات ، والأماني الكاذبة ، وهي في القلب ، فيدخل الشيطان ، فيجدها عتيدة ، فيأخذها ، ويصول بها على القلب ، فإنْ كان عند العبد عدة عتيدة من الإيمان تقاوم تلك العدة ، وتزيد عليها ؛ انتصف من الشيطان ، وإلا فالدولة لعدوه عليه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . فإذا أذن العبد لعدوه ، وفتح له باب بيته ، وأدخله عليه ، ومكنه من السلاح يقاتله ؛ فهو الملوم.
فنَفْسَكَ لُمْ ولا تَلُـمِ المَطايا | ومُـتْ كَـمَداً فَلَيْسَ لـكَ اعْتِذارُ |