نصف مليون أب وأم من المسنين في حاجة لدور رعاية بسبب جحود الأبناء

تسألني.. "نشروا لك موضوع في الجريدة اليوم"؟ أقول: نعم. تطلب مني فتح
الصفحة وتحاول أن تخمن موضع اسمي علي الموضوع لكنها تفشل لأنها لا تجيد
القراءة والكتابة.. أشير لها مساعداً إلي موضع الاسم فتنظر إليه وكأنها
تقرأه. وتلمع عيناها من فرط السعادة .. وهذا سبب يكفيني لكي استمر في
الكتابة.

وأجد من الظلم أن احتفل بأمي في 21 مارس فقط فهذا لا يليق بها.
فاحتفل بها في كل صلاة عندما ادعو لها ولأبي كما علمني ربي "وقل ربي
ارحمهما كما ربياني صغيرا". واحتفل بها كلما طلبت مني طلبا فأسرع في
تلبيته قدر استطاعتي. واحتفل بها كلما قمت بتبسيط معلومة دينية لها تستعصي
عليها.

لقد جعل الله سبحانه وتعالي رعاية الأم والأب أول حق بعد حق التوحيد.
وربطه في مواضع كثيرة من القرآن. ولما لا. ودعوة التوحيد انتشرت بفضل جهود
الأنبياء لكن هذه الجهود قد تخفي علي الكثير منا أن شخصية الأم كان لها
دور رئيسي في "إيصال تلك الدعوة إلينا اليوم".

ورصد التاريخ الإسلامي لحركة الأديان السماوية والدعوة إلي توحيد
الله منذ بداية الخليقة وحتي دعوة الإسلام دور أمهات عظام اصطفاهن الله
لرعاية تلك الدعوة وأصحابها.

???


فالبداية مع أم البشرية حواء التي ادعي البعض أنها سبب خروج آدم من
الجنة رغم صراحة القرآن في ذلك الأمر وأنهما أكلا من الشجرة المحرمة
عليهما معاً. لكنهما بعد أن نزلا إلي الأرض عاشا سوياً في بعض الروايات
أكثر من 900 عاما وعمرا الأرض وزرعا في ذريتهما الإيمان والإسلام.

في عهد نبي الله إبراهيم جاءت الأم هاجر التي ولدت له إسماعيل عليه
السلام الذي جاء من نسله سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم. وعندما تركها
زوجها في صحراء مع طفلها الرضيع. وصبرت وفرج الله كربتها بماء "زمزم"
وقامت علي رعاية ابنها حتي بلغ أشده وأطاع أبيه حتي في أمر ذبحه!!

وكرمها الله بأن جعل السعي بين الصفا والمروة شعيرة من شعائر الحج.


ومن بعدها جاءت أم موسي التي ربت في كنفها بني من أولي العزم. والذي
تحدي فرعون الذي ادعي الألوهية. وانقذ بني إسرائيل من استعباده لهم. وزوجة
سيدنا أيوب التي اضطرت للعمل في خدمة البيوت لتنفق علي بيتها.. وإذا كانت
امرأة عمران هي أم السيدة مريم سيدة نساء العالمين. فإن دعوتها إلي الله
بأن يحفظها وذريتها من الشيطان الرجيم ظلت معها إلي أن انجبت نبي الله
عيسي.

ورغم الظلم الذي تعرضت له السيدة مريم العذراء من أهلها. صبرت وهربت
بابنها إلي مصر. وحافظت بذلك علي دعوة والتوحيد. ورغم الظلم الذي تعرضت له
فيما بعد جاء القرآن ليكرمها بذكر اسمها. وأن الله عز وجل هو الذي اصطفاها
علي نساء العالمين.

ارتبطت عظمة دور الأم كما رأينا مع دور الأنبياء في الدعوة إلي الله
عز وجل. ولن يسعنا الكلام في هذا الموضع عن أمهات المؤمنين. وعلي رأسهن
السيدة خديجة التي ناصرت النبي الكريم محمد صلي الله عليه وسلم وقت تعرضه
للظلم من "كفار مكة".

كما أن السيدة عائشة أحب الناس إلي قلب الرسول كان لها دور عظيم في
نقل السنة القولية والفعلية عنه وحفظها لنا حتي تعلمنا منها أدق أسرار
الحياة الأسرية. والعبادات وغيرها.

وعيد الأم. احتفال قديم. تقول أقوي المراجع التاريخية إن حضارات
وثنية هي التي اخترعته ضمن الأساطير التي نسجوها. لكن العيد نفسه لم تأت
به أي ديانة سماوية.

وكان من أول تلك الأساطير التي نقلت عن شعب زيجيا بآسيا الصغري حيث
اعتقدوا أن أهم إلهه لهم هي "سيبيل" أم كل الألهة. ويتم تكريمها في احتفال
حقيقي.

لكن اليونانيين القدماء نقلوا هذه الصفة إلي الإلهة "رهبا" لأنها كانت في اسطورتهم الأقوي علي الإطلاق وكانوا يحتفلون بها ويقدسونها.


وعلي نفس المنوال كان للرومان أم الهة تسمي "ماجنا ماتر" أو الأم
العظيمة وتم بناء معبد خاص لها حسب زعمهم اسمه "تل بالاتين" ويقام فيه
الاحتفال في 10 مارس لمدة ثلاثة أيام في مهرجان اسمه "هيلاريا".

يرمز عيد الأم في المسيحية إلي "الكنيسة الأم" حيث يحتفل بتأسيسها في
الأحد الرابع من الصوم الكبير عند الأقباط ويتم شراء الهدايا كل واحد
لكنيسته التي تم تعميده فيها حسب تلك المعتقدات.

ويختلف تاريخ الاحتفال من دولة لأخري كما تختلف العادات المتبعة للاحتفال به.


فالنرويج مثلاً تحتفل به الأحد الثاني من فبراير والأرجنتين الأحد
الثاني من أكتوبر. والهند مطلع شهر أكتوبر ويستمر الاحتفال فيها عشرة أيام
ويسمي درجا بوجا. وهذه أم قديسة لديهم وهي الهة هندوسية. ويمثلونها علي
أنها طويلة للغاية ولها عشرة أذرع وتحمل في كل ذراع سلاحاً لكي تدمر الشر.

مناسبة وعبرة


ونعود اليوم لنجد أن عيد الأم أصبح مناسبة لتذكر "آلام" عقوق الوالدين
"الأم والأب" التي انتشرت في المجتمع المصري قالت دراسة أمريكية إنه
المجتمع الأول من حيث التدين في العالم. والالتزام بمعايير الدين في حياته
مسألة أساسية.

وأسوق في هذا الصدد حكاية ذكرها لي دكتور شامل ضياء الدين رئيس
الجمعية المصرية لصحة المسنين. قال إن دار رعاية المسنين التي يديرها شهدت
حادثة غريبة جداً.

بداية أحد النزلاء وكيل وزارة سابق انجب ثلاثة أولاد كلهم اساتذة في الجامعات المصرية.


كرس حياته كلها من أجلهم حتي باتوا من أهم الشخصيات البارزة في
المجتمع سافر اثنان منهم للعمل في الخليج. وبقي الثالث للعمل في إحدي
الجامعات بمصر.

تدهورت الحالة الصحية للأب التي احتاجت إلي رعاية خاصة فجاء إلي
الدار التي يدفع لها شهرياً مبلغ 250 جنيهاً مقابل كافة خدمات الإقامة
والأكل والعلاج.. في إحدي المرات طلب الأب من ابنه استاذ الجامعة 20
جنيهاً ليعطيها "إكرامية" للعمال الذين يقومون علي خدمته في الدار.

سارع استاذ الجامعة إلي إدارة الدار يطلب تسجيل الواقعة وشهادة تقول
إن أباه بدأ يهذي ويطلب أشياء غريبة قد تتطور إلي التنازل عن ثروته إلي
الفقراء مثلاً.

وقال بصراحة إن هذه الشهادة سيستخدمها في قضية حجر علي أبيه أمام
المحكمة لكي يحمي الثروة من الضياع ورفض بعد ذلك دفع مصروفات أبيه لأنه
رفض مغادرة الدار.

حكاية غريبة تجعل الإنسان يكره دور المسنين ويعتبرها رمزا لمدي
الجحود الذي يعانيه الأبناء من الآباء. لكن الحوار مع د. شامل الذي يعمل
استشارياً للتحاليل الطبية والذي أصبح أيضا صاحب أبحاث دولية في مجال
رعاية المسنين له رؤية أخري.

احتياجات المسنين


ويري دكتور شامل. أنه من واقع عادات المسنين ومشاكلهم الصحية والاجتماعية نجد أنه من الضروري وجود أماكن ملائمة لإقامتهم.


ويحتاج كبار السن الذين يعانون الوحدة بسبب وفاة الزوجة وسفر الأولاد
أو الابتعاد عنهم لأي سبب. كما أن هناك من كبار السن من يحتاج لخدمة من
نوعية خاصة بسبب ظروفه الصحية لا يستطيع أفراد الأسرة تقديمها له..وضرب
مثلاً برجل ذهب لاحضار من "يعلق" لوالده محلول دوائي فطلب الممرض 200 جنيه
عن كل مرة ويحتاج لذلك أربعة أيام متتالية. وهذه خدمة لن يستطيع الابن
تقديمها. ويمكن أن تتوفر مجاناً في دور رعاية المسنين.

لكنه أكد علي أهمية بقاء الأب أو الأم بين أفراد الأسرة وتلقي الرعاية بين احضانهم لما في ذلك من أثر نفسي طيب عليه وعلي صحته.


وأوضح د.شامل أن كبار السن الذين يحتاجون دوراً للرعاية في مصر يمثلون
نسبة تتراوح من 10% إلي 20% من كبار السن البالغ عددهم حاليا نحو 4 ملايين
مُسن علي أقل تقدير.

ويعني ذلك أن هناك حوالي نصف مليون شخص في حاجة لدور المسنين. وعدد
الدور المتوفرة حالياً يتراوح من 120 إلي 150 دارا بسعة 4 آلاف فرد يتركز
معظمها في القاهرة وضواحيها. وبعضها في الإسكندرية.

وبذلك يتضح أن دور المسنين الحالية لا تستوعب سوي 1% من الأعداد الحالية وهذا يؤكد وجود أزمة.


وشدد علي ضرورة تدخل الدولة في المساعدة لإقامة دور للمسنين. لكنها
تكتفي بالإشراف عليها عبر نافذة وزارة التضامن الاجتماعي. والارقام تقول
إن هذا لا يكفي لأن معظم الدور تؤسس بمبادرات فردية ضعيفة.

وذكر الدكتور شامل أن عدد المسنين سيصل إلي 5 مليون نسمة في مصر
بحلول عام 2050 أي خمسة أضعاف الوقت الراهن في حين أن عدد السكان سيتضاعف
خلال تلك الفترة إلي 130 مليون نسمة مما يعني زيادة رهيبة في الاحتياج إلي
دور المسنين لن تؤديه المبادرات الفردية.

وأشار إلي وجود دور مسنين في مصر تصل تكلفة الإقامة فيها إلي 2500
جنيه شهريا خاصة بالنسبة لمن يحتاجون لرعاية خاصة. وأشار إلي أن تكلفة
الإقامة للفرد في جمعيته 250 جنيهاً لكنه يعتمد علي التبرعات من أجل تغطية
المصاريف.

وأوضح أن لديه 40 نزيلاً جميعهم غير قادرين علي خدمة أنفسهم بسبب ظروفهم الصحية.


وعن الدور الاجتماعي للدار قال إن الإدارة تتابع تواصل الأبناء مع
الآباء والأمهات في الدار وفي حالة غياب الابن أو الابنة أكثر من شهر عن
زيارة أبيه أو أمه تقوم بالاتصال به سرا للإلحاح عليه لزيارتهم.

الغريب في الأمر أن الدكتور شامل قال إن أكثر من 50% من أبناء النزلاء تضطر الإدارة للإلحاح عليهم لزيارة أبيهم.


واختتم الموضوع باقتراح للدكتور شامل بأن تتبع الدولة تجربة انجلترا
حيث تقوم الحكومة هناك بتحويل معاش الفرد وكل دخله الشهري إلي دار المسنين
التي يقيم بها.

ومن العجيب أن وزارة التضامن تقطع المعاش الاستثنائي التي تقرره لأي شخص إذا دخل دار المسنين بدلاً من تدعيم تلك الدار.